الرحلة من الدين

No comments



"النظر إلى ما يسمى بالدين ، و اعني أَيْ ظاهرة تدين منظمة، ليس فقط في الهند ، بل في كل مكان ، تملأني بالرعب و أنا اعترض عليها كثيراً و أتمنى أن تختفي من الوجود. غالبا ما تكون عبارة عن إيمان اعمي و ردود أفعال بدون معنى و عقيدة و تعصب و غيبيات لتحقيق مصالح شخصيه .. " / نهرو

هذا المقال...
هو ليس دعوة لأي شيء مهما كان تفسيرك عزيزي القارئ، بقدر ما هو سرد لرحلة عبر أغلال ودهاليز ذاتي نحو فضاءٍ تمكنّت فيه من أن أبسط جناحيّ وأطير تحت الشمس وعبر العتمة بنقاءٍ وسلامٍ روحيّ وصحةٍ عقلية.
بسنين عمري المبكرة ومنذ أن نطقت أول حرفٍ بعد كلمتي ماما وبابا ابتدأ التلقين ! لن أتحدث هنا عن أناشيد المجتمع والسياسة فهي جزء من البرنامج الذي يتم تنصيبه في أدمغتنا وحمايته بـ (firewall) متطور لا يمكن اختراقه بسهولة.
بل سأتحدث عن التلقين باسم الدين والعبادة، ما يتم برمجتنا وفقه لنكون تابعين وخاضعين لأنظمة تشريعية تبدو للولهة الأولى ثابتة صحيحة مُنصفة آلهية لا يُسمح النقاش بشأنها أو التفّكر بها، لكنها بالحقيقة ثابتة من حيث صرامة إتباعها وتنفيذها متغيرة حسب أهواء ومصالح المستفيدين منها وواضعيها. }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1.

آمــين
ترعرعت بأسرة معتدلة نوعاً ما وكان هذا ناشئاً عن التناقض بين قطبيها، أضف إلى أن الظروف والبيئة التي واكبت نمويّ وتكوين شخصيّتي لم تكن بتلك الفترة متشددة دينيا أو متعصبة طائفيا بل على العكس وفقاً للنظام الحاكم آنذاك. لكن هذا لم يجعلني أبتعد عن البيئة التي تطغى عليها الصبغة الدينية بالأساس فنحن العرب الشرقيون معروفون بأننا دول إسلامية، شعوبها روحانيون تتخذ فيها الحكومات التشريعات الإسلامية بالتحديد كأساس لسّن قوانين الدولة والدستور والنظم، مما يجعل أي فرد من المجتمع بوضعية (لبيك لبيك) و (سمعاً وطاعة) في أي أمرٍ كان دون محاولة التفكّر والنظر للأمور من زاوية أكثر انفراجا من تلك الضيقة التي صُبّ فيها منذ البدء.
}إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } 2 ، }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ 3

ببداية حياتي لم تُرغمني أسرتي على التديّن أو الالتزام بالدين لكن ما كان (يشجعني) على ذلك هو محيطي المتكون من المدرسة والجيران والبقية أجمع، كان كل شيء بمثابة خيار فيما يتعلق بذلك، وحين قررت خوض التجربة والنهل من ينبوع الدين من أعماقه فوجئت بردة فعل (بعض) من أفراد أسرتي بالرفض القاطع! كان السبب هو الخوف من السلطات فهي مُرعبة بالنسبة لهم أكثر من ربهم. وكان معروفاً آنذاك أن من يخوض هذا الغمار؛ خصوصا بما يتعلق بمعتقدات الطائفة التي قيل إنني يجب أن انتمي لها وعلي أتباعها، فهو يُتهم بأنه تابع لجهة معادية أو جاسوس ويُحاكم بتهمة الخيانة الوطنية. لكنني رغم هذا ركبت الموجة بالاستعانة بالفريق الثاني من أسرتي وآخرين رغبة مني بعيش الدور واكتشاف ماهية وسرّ هذه العقيدة التي وجدت الكثيرين يُفنون دونه ويبذلون فيه كل نفيس. عندها فقط أقرر وأطلق أحكامي بهذا الخصوص .
كنت من المدافعين عن الدين حيث كرسّت له قلمي ونددت وحاربت من تطاول عليه، امتزجت فيّ الشخصية التي دُربنا عليها بحذافيرها والتي تتميز بأن آرائها غير قابلة للنقاش، قمعية، مظلمة، مُسيّرة ولا يمكنها اتخاذ أي قرار إلا بالرجوع إلى الأسياد والمراجع. الشخصية التي كانت تُفسر الدين بما تشتهي وتدعّي أن التناقضات واللاعدالة واللامساواة والظلم والكبت والتعصبيّة والانغلاق والتبويب على أساس الطبقات والأصول ووو غيرها من المظاهر البعيدة عن الإنسانية هي بفعل سماسرة يحاولون تشويه صورة الدين وجعلوا منه شمّاعة لأخطائهم وتعليلاً لكل رغباتهم وسلوكياتهم.. أوليس كذلك؟
مرت بضعة سنين انغرست فيها بالدين والعقيدة بشكل عميقٍ جدا ومخيف حتى إنني لم اعد أشعر بذاتي؛ وهذا يعني انعدام الذات والاستقلال، الابتعاد عن التفكير والتحليل والبحث، والاعتكاف على الطاعة العمياء فقط والانقياد لمتناقضات بدأت تبعاتها تزعجني جداً لا بل وتخنقني لدرجة إني حين أفتح النور بأحد الغرف التي باتت مظلمة في رأسي أتفاجأ مما أرى وأكتشف وأبدأ بالضحك على نفسي أولاً وأخيرا.
كانت البداية لا للشعور بالندم بل بالارتياح لما توصلت إليه وخضته وتوغلت فيه، فمنحت نفسي شهادة تقديرية على صبري بخوض تلك المهمة الصعبة التي تتناقض وشخصيتي ومبادئي التي كادت براعمها أن تُستأصل وأتحول إلى شاةٍ بدوري.
"عندما كنا ندرس سلوك القردة كنا نشعر بالإحباط من النقطة التي توقف عندها تفكير هذا الكائن ..وإنني أخشى أن يكون هناك من ينظر إلينا ، نحن البشر، من "البعد الرابع" ويشعر بالإحباط من النقطة التي توقف عندها تفكيرنا !!!! " 4

البديل
الخطأ الذي أوقعت نفسي فيه هو البحث عن بديل، ربما كان السبب هو عدم نضجي فكريا حينذاك والحاجة لإجابات على الأسئلة التي زرعت بذهني كجزء من ميكانزمية إلزامية تجعلنا جميعا بحاجة لدين ولأن نكون توابع خاضعة لجهة مجهولة خفيّة لاهوتية تُقاد على الأرض من قبل أسياد ليس من حقنا أبداً مناقشتهم فكيف بنا ومعارضتهم ؟!
برحلة البحث عن بديل بالمخالطة مع طوائف عقائدية أخرى كُنت كمن اختار اللهث بدائرة مغلقة ليس لها نهاية. سأختصر عليكم الرحلة وأصل للمفترق الذي ابتدعته بنفسي من خلال شخصٍ أحببته حين اتجهتُ لدينٍ آخر، بعد قراءاتي المكثفة لجميع الأديان السماوية وغير السماوية التي وجدت إنها جميعا تُبنى على ذات المرتكزات اللاعقلانية كفكرة المُخلص أو المنتظر ومبدأي الثواب والعقاب والعقوبات الصارمة بحق من يترك تلك الملّة أو الدين والتي من شانها جميعا أن تُحكم إغلاق العقل المنفتح المتفكّر وتُشّل إرادته وتمنعه من المضي قدما بعيش واكتشاف الحياة إذ إنها جميعا تمنحك شعور بالذنب وكأن هناك من يركض خلفك وعليك سداد دين أفعال ارتكبها من سبقوك: أي تدجين على الماسوشية من جهة والتبعيّة من جهة أخرى بيد أن الكثير من الأحيان نكون نحنُ الساديون الجلادون بذات الوقت!
الخلاصة إني كنتُ كالمستجير من الرمضاءِ بالنارِ.... بحت تناقضات.
" ليس هناك عاقل يدعو إلى الاستغناء عن الدين. لكن مشكلة الخطاب الديني أنه لا يزال - في غياب إصلاح ديني ولاهوتي جذري - ينتمي إلى العالم القديم، عالم البيعة والطاعة والشورى ونحو ذلك. في حين أن السياسة أصبحت، منذ ما يقارب قرنين من الزمن، تنتمي إلى العالم الجديد، عالم الانتخابات والديمقراطية، والتعددية، والعقد الاجتماعي، وفصل السلطات، والتداول على السلطة، ونحو ذلك." 5
بغض النظر عن وجود الخالق أو لا فنحن نتعامل مع معطيات ملموسة على الأرض باسم الأديان التي هي من تتحكم بحياتنا وتُسير تفكيرنا وتستبيح حرياتنا باسم الخالق ! " إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة ، فما الذي يبرر الوسيلة ذاتها؟ "/ كامو.


شيزوفرينيا !

"أما فيما يخصّ البشر العاديّين، أي السواد الأعظم المَوجود للخدمة والمصلحة العامة والمسموح له بالوجود لهذه الغاية فحسب، فإنّ الدين يَمدّهم بِرِضَى عن وضعهم ونوعهم لا يُقدَّر بثمن، بسلام مضاعف في القلب، بإعلاء لشأن انصياعهم، بسعادة وآلام جديدة يشاطرونها أمثالهم، بنوع من التسامي والتزيين، بنوع من التبرير لكلّ الحياة اليومية، لكلّ الوضاعة (Niedrigkeit)، لكلّ البؤس نصف البهيمي الذي في نفوسهم (Halbthier-Armuth ihrer Seele). إن الدين وأهمية الحياة الدينية يُضفيان بريقا نيّرا على أولئك البشر المعذبين أبدا ويمكنهم من تحمّل مَنظرهم الخاصّ، وتأثيرهما أشبه بالتأثير الذي خلفته الفلسفة الأبيقورية، عادة، على متألمين من رتبة أعلى. إنه يُنعش ويُصقل ويَستغلّ الآلام، إن صحّ التعبير، بل إنه يقدّسها ويبرّرها آخر الأمر أيضا" 6. وهذا يؤكد مقولة ماركس بان : "الدين أفيون الشعوب" إذا ما خلعنا على الدين هالته الأسطورية فهو تعبير عن بؤس حقيقي، ولكنه في نفس الوقت احتجاج ضد بؤس حقيقي. يُستخدم لتخدير البسطاء المُعذبين المهمشين في الحياة الذين يشكلون دائما الطبقة السفلى من المجتمع إذا ما أخذنا الجانب الطبقي للمجتمعات، وجعلها أي تلك الطبقة الكادحة الطبقة الوديعة الصابرة على همومها اليومية وصعوبة بل واستحالة توفير العيش الكريم الحرّ راضية باستغلالها تحت ذريعة الاختبار الإلهي والرضوان والمفاز الأخير بفسيح الجنان وعظيم الشأن والمكان، هنا تكمن عظمة و قوة الأديان وبذات الوقت ضعفها فإن المسافة بينهما قيد شعرة، لأن كل شيء هنا مبني على الغيبيات حيث إن الدلائل والحجج والبراهين التي يستندون عليها والتي تقود لليقين والإقناع العقلي والتحكم الذهني بالآخر متناقضة بشكل واضح ومثيرة للشك لمن يتفكر حتى أبسط التفكير. لن أتطرق لعرض التناقضات ودحضها والرجوع للمراجع والكتب، وهذا يقودنا منطقيا للحاجة إلى الدين بالنسبة للشعوب ولسماسرته.
" إذن، الدين دينان ولكل واحد منهما دوره ومهمّته: الدين الأوّل هو دين الأقوياء الذين يمسكون بمقاليد الحكم، أو أولئك الذين يرغبون في المحافظة على نقاوة نفوسهم عن طريق التأمل والخلوة حيث يقدّم الدين لهم حوافز وإغراءات عديدة لانتهاج الدروب المؤدية إلى روحية عليا ولاختيار مشاعر الصمت والوحدة والتجاوز الكبير للذات؛ أما الدين الثاني فهو الدّين الذي يستعمله الحاكم عن قصد كأفيون للعامّة، ذلك الصنف من الناس التي تقتصر مهمته على الانصياع لأوامر الأقوى، هنا يتدخّل الدين لتكريس عبودية أولئك الضعفاء وإشعارهم بوضاعتهم وتبرير البؤس في نفوسهم التي لا ترقى إلى درجة الإنسانية لأنهم أنصاف بهائم. إن نقد الدين عند نيتشه ينطبق عليه قول ماركس من أنه تقطيع للأزهار الكاذبة بغاية تبرير أغلال العبودية وتكريس وحشية علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع الرأسمالي." 7
بدأت النوافذ تنفتح في ذهني نحو العالم الحقيقي الخارجي لا الكاذب المزيف المحصور في علبة فارغة والتي اسمها (الدين)، إن جميع الدول التي تعاني من مشاكل حقيقية وبؤس وتدهور على جميع الأصعدة كان الدين فيها حاكما مُهيمنا وفتيلاً نشطاً، جميع الشعوب التي تعاني انحسار ثقافي وتراجع حضاري تكون فيها لغة الدم هي السليطة تحت مسميات التطهير أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذه الدول بكل ما تعاني مما ذكرت وأكثر يقسم الدين فيها الناس إلى ثلاثة: القسم الأول؛ المتحدث باسمه أي (الريموت كنترول) وهم المستفيدون وعلى الأغلب الواضعون له أو المحافظون عليه، والقسم الثاني هم آلات القتل والإبادة المدججة بالأفكار السوداوية الحمقاء كونكريتية العقل والمُتحكم بها عن طريق (الريموت كنترول) تماماً وهم أيضاً المستفيدون من ناحية تعزيز المكانة التي يتبوءونها وتغذية أوهامهم بالنجاة والإصلاح الذي سيتم على أيديهم كجنود للرب والمنفعة التي تعود عليهم من تبعية أسيادهم ، أما القسم الثالث فهم المسحوقون بين عجلتي القسم الأول والثاني، والوقود الفعلي للدين ولعناصره ، الذين يشكلون القواعد والطبقات الأساسية للهرم الديني-الرأسمالي أو ما تحول إليه بوقتنا الآن الهرم الديني-السياسي.
" لا يمكنك إقناع المؤمنين بأي شيء لأن عقائدهم لم تبن على دليل . إنه مبنى على رغبة عميقة لديهم للإيمان." / كارل ساغان

نهضة أوربا
قبل الخوض بنهضة الدول التي وجدت الحل أخيرا بفصل شؤون الدولة والحياة المدنية عن الدين ومشاكله وتناقضاته التي لا تُرضي أحد ولن تفعل، سأنوه عن البارانويا التي نمتلكها والتي كانت من ضمن الأنظمة البرامجية التي تم تنصيبها بتفكيرنا وأذهاننا على أن تلك الدول دائمة التخطيط للنيل والإطاحة بنا والطعن بديننا (الإسلام) لتدميرنا واستغلالنا، إنها مجددا نظرية المؤامرة التي تُعد شماعة نعلق عليها فشلنا وتخلفنا والحروب المستمرة الطاحنة التي استهلكتنا على مدى عصور طويلة بسبب عدم الاتفاق على (الشهادة) أو (مصداقية ظهور المُخلص) بنهاية الزمان .
" رجال الدين من مختلف الطوائف..يعانون من تقدم العلم, كما يعاني السحرة من موعد شروق الشمس, ويعبسون في وجه تلك الإطلالة التي تعلنهم بأن تلك الأوهام التي يعتاشون عليها في طريقها للزوال .." / توماس جفرسون

ولتكريس وتعميق هذه المفاهيم والعقلية اللامنطقية ما ينفك مُنظرّوا المنابر و الفضائيات بالإفتاء حيث يُفصّلون ويتفننون في أشكال التعذيب وأهوال القبور وما بعد الموت والقصاص وما إلى ذلك، ومن ثمة إشاعة وتفعيل ثقافة الترهيب والتخويف من الله وغضبه، وغاية هذا النهج إرهاب الناس و مصادرة عقولهم باسم العقاب وواجب الطاعة إلى درجة يبدو معها كما لو أن هناك نوعا من التوجه نحو تجريم الحياة والدعوة إلى الظلامية، } وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .... وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ { 8. أين التسامح الديني؟ أين ذهبت الرحمة الإلهية، } قُـلْ يَا عِبَـادِيَ الَّذِيــنَ أَسْــرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِــمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُـورُ الرَّحِيــمُ ، وَأَنِيبُــوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْــلِ أَن يَأْتِيَكُـــمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ، وَاتَّبِعـُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ..{ 9
يمكننا تلخيص نتيجة نهضة أوربا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وتحول نظام الحكم فيها إلى مدني بالنص المقتبس: " إن الإستبدادين: السياسي والديني مقارنة لا تنفك متى وُجد احدهما في امة جرّ الآخر إليه، أو متى زال، زال رفيقه، وان صلح، أي ضعف الأول، صلح، أي ضعف الثاني. ويقولون: إن شواهد ذلك كثيرة جدا لا يخلو منها زمان ولا مكان. ويُبرهنون على إن الدين أقوى تأثيرا من السياسة إصلاحا وإفسادا، ويُمثلون بالسكسون؛ أي الانكليز والهولنديين والأمريكان والألمان الذين قبلوا البروتستنتية، فأثر التحرر الديني في الإصلاح السياسي والأخلاق أكثر من تأثر الحرية المطلقة في جمهور اللاتين، أي الفرنسيين والطليّان والاسبانيول والبرتغال. وقد اجمع الكتاب السياسيون المدققون، بالاستناد على التاريخ والاستقراء، ما من امة أو عائلة أو شخص تنّطع في أي تشدد فيه إلا واختل نظام دنياه وخسر أولاده وعقباه..... ويعتبرون إن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى واقرب طريق للإصلاح السياسي." 10
دولنا وحكوماتنا ومجتمعاتنا للأسف قائمة على الدوغمة التي توجد في كثير من الأديان (على جميع المستويات) مثل، المسيحية، الإسلام، و اليهودية، و التي تلزم فيها الأديان أتباعها باعتناق أركان أو مبادئ بشكل دوغماتي. الدوغماتيات في الأديان يمكن أن يتم توضيحها وتبيينها من قبل المستفيدين والذين يدعون بالمراجع أو الأولياء الذين يتم إتباعهم وتقليدهم من قبل الناس ولكن لا يسمح بمناقضة الدوغمة او حتى نقاشهم. ويعتبر رفض الدوغماتية (هرطقة) في بعض الأديان، و قد يقود إلى ) التكفير) أو (إهدار الدم ( من لدن معتنقي تلك الديانة.
نعود لنهضة أوربا والكيفية والخطوات التي قادت المجتمع بنسبة عالية للتخلص من هيمنة الدين والتسلم له أو وهم الإله حتى ، بالأساس فلفهم ولو بشكل مختصر أسباب نشوء الدين وتسليم الناس له ولفكرة الرب؛ في القرون الماضية الساحقة ومنذ فجر البشرية كانت الإمكانيات العلمية لدى البشر محدودة لدرجة عجزه عن فهم واستيعاب وتحليل الظواهر الطبيعية حوله وكذلك إيجاد الحلول للمشاكل التي واجهته كالأمراض واحتياجات ومتطلبات حياته البسيطة لذا كان يعزي كل شيء لقوى غيبية لاهوتيه ، وكان ذلك قبل ظهور الأذكياء والطموحين الدجالين الذين يدعون بالأنبياء. ان الدين او الرب نشأوا فكرة بين واحد نصاب وذكي وآخر غبي ومحتاج لذا تعززت مكانته على مر القرون وصار الإنسان يوكِل إليه كل شيء ويعتمد على الوعود والغيبيات الكاذبة ، حتى ارتفع صوت العلم واستطاع أن يتغلب ويدحض ما جاءت به خرافات الأولين وأديانهم وافتراضاتهم وادعاءاتهم بان الكتب السماوية –كما يسمونها- هي الوحيدة التي وضعت لتنظيم حياة الإنسان وفيه يجد ضالته بكل ما يبحث ويحتاج!! متناسين وجود بشر آخرين بمناطق مختلفة ونائية من العالم لم تصل إليهم كتبهم هذه ولم يسمعوا بدينهم حتى ! وهكذا أصبح بإمكاننا بالعلم والعقول الواعية المنفتحة أن نفهم الكثير ونجد له التفسيرات المنطقية العلمية المدروسة والتي تم إثباتها حقا.
" العقل الغربي أصبح مهيمنا على العالم بسبب نجاحاته التكنولوجية والاقتصادية السياسية الصارخة. لقد وصل من القوة والعنجهية إلى حد انه نافس الدين، بل وانتزع منه تلك الذروة العليا التي تعلو ولا يعلى عليها: اقصد ذروة الهيبة والمشروعية. ومن المعلوم انها كانت من اختصاص الدين لفترة طويلة من الزمن. اصبح العقل العلمي هو الذي يحدد المشروعية وليس الدين. وعندئذ انتقلت البشرية الاوربية من الفضاء العقلي القروسطي إلى الفضاء العقلي الحديث. واصبح علماء الطب والبيولوجيا والقانون هم الذين يحددون السلوك الاخلاقي المستقيم وليس رجال الدين. وحشر العقل الغربي الدين في منطقة ضيقة وحدد له وظائف ثانوية بعد ان كان يتحكم بحياة البشرية الاوربية في كل كل شاردة وواردة طيلة قرون وقرون . وهنا يكمن لبّ الصراع الذي دار بين العقل المسيحي وعقل التنوير منذ القرن الثامن عشر. فالرهان الاكبر كان: السيطرة على ذروة المشروعية العليا التي تعلو ولا يعلى عليها. .... وهكذا حرمت الدولة الحديثة الدين من كل الوظائف الاساسية التي كان يمارسها طيلة العصور السابقة. لقد انتزعت منه حتى الامل الاخروي الذي كان يعزى به البشر بسبب آلامهم وحرمانهم في هذه الحياة الدنيا." 11

التسييس الديني أو الأديان السياسية
كلنا نعرف وعلى مدى العصور الطويلة كيف إن للسياسة شكل الزئبق الذي لا شكل له ولا يمكن تحديده وتأطير ماهيته، فهي ليست بثابتة الفكر أو الوسيلة أو الأساليب المتبعة للوصول إلى الغايات والأهداف فتشكلت وتلونت وتنوعت حسب أفكار الناس السائدة بما يمكنها من الولوج لأنظمتهم الدفاعية العقلية والهيمنة عليها وإطفاء جميع منبهات الخطر فتحولت من الأحمر إلى الأخضر بفعل تلويّها هذا فتارة اتخذت القوة كوسيلة لها وتارة استغلت الفقر والحرمان بينما صعد الآخر على أكتاف بل ورؤوس العمال الكادحين فبنوا لأنفسهم هرما اعتلوه، أما الدين فكان الورقة الرابحة على الدوام وما زالت بالنسبة للسياسيين والعكس هو الصحيح .
" عندما وفرت لهم الدولة كل ما يريدون على هذه الأرض لم يعودوا بحاجة إلى هذا العزاء. كما وانتزعت الدولة الأوربية الحديثة من الدين ذروة القيم الاخلاقية التي تؤمن المحافظة على التماسك الاجتماعي للشعب، وترسخ التضامنات الحيوية اللازمة لحياة المجتمع، وتكفل المعاملات والصفقات المعقودة بين البشر، وتؤمن المشروعية...الخ، كل هذه الاشياء انتزعت من ايدي الدين وسلمت إلى ايدي الدولة وعنايتها. وبالتالي فلم يعد للدين من وجود يذكر في الحياة العامة للمجتمع. واما أنظمة العالم الثالث القائمة على الحزب الواحد فقد فشلت في توفير هذه الاشياء لمواطنيها بعد انهيار قانون العرف والتضامنات التقليدية. ولهذا السبب بالذات فان الحركات الاسلاموية الاصولية قد شهدت نجاحا سريعا ومنقطع النظير. واستطاعت ان تحتل الساحة الخالية بكل سهولة ويسر. وهكذا استعاد الدين وظائفه بصفته ملجأ للبشر المسحوقين وملاذا للمستضعفين. واصبح هو المرجعية الاساسية التي يعتصم بها الناس في اوقات الشدة والضيق وهو الوسيلة للتوصل إلى بعض الطمانينة في عالم ساحق ماحق لا يرحم. فالدولة تختلت عن المواطن، والمواطن لم يعد يعرف اين يذهب ، فالقى بنفسه في احضان الحركات الاصولية.... ان هذه الانظمة ولد عددا كبيرا من الخاسرين والهامشيين والخائبين والمتمردين والمنبوذين والعاطلين عن العمل. وبالتالي فان الحركات التي تستخدم وعود العدالة والأخوة والحماية الاجتماعية والكرامة وتجييشها من جديد. " 12




هوامش:
1-أل عمران 64

2-آل عمران 19
3- البقرة 256
4- عالم الأعصاب الألماني "هويمارفون ديتفورت - من كتاب "تاريخ النشوء
5- سعيد ناشيد: أي مشروع رافض لقيم الحداثة والتنوير لن ينتج غير الهمجية
6- ف. نيتشه، ما وراء الخير والشرّ، ترجمة جيزيلا فالور حجار. مراجعة موسى وهبة، دار الفارابي، بيروت ـ لبنان 2003، 258. 3- F. NIETZSCHE, Gِtzen-Dنmmerung, oder wie man mit dem Hammer philosophiert, in Friedrich Nietzsches Gesamtausgabe, von Giorgio Colli und Mazzino Montanari, De Gruyter/New York 1999, Bd, VI, p. 150
7- نفس المصدر السابق
8- الانعام 141-142
9- الزمر 53
10- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد- عبد الرحمن الكواكبي
11- الاسلام، اوربا، الغرب – محمد اراكون
12- نفس المصدر السابق

No comments :

Post a Comment

المعجزات قصص للاطفال- روان يونس